• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مصادر المعرفة السليمة كما بينها القرآن الكريم

الشيخ مقداد الدجيلي

مصادر المعرفة السليمة كما بينها القرآن الكريم
يمكننا الاستفادة ممّا بيّنته الآيات القرآنية الكريمة عن الطرق الموصلة إلى المعرفة السليمة، التي لو اتّبعها الإنسان لأمكنه أن يصل إلى لبّ الحقائق، ويهتدي إلى الصواب في كل مراتب المعرفة التي يقصدها. وهي الطرق التي احتجّ بها الله سبحانه على عباده كما تظهره الآيات الكريمة، لعلمه تعالى بما تنطوي عليه فطرة الإنسان وجبلته. ولابدّ من الإشارة إلى أن بعض مصادر المعرفة هذه متيسرة لكل إنسان يقصدها، وبعضها يحتاج إلى جهد خاص، فيما بعضها الآخر اختص الله تعالى به بعض عباده المخلصين. ونتناول في هذا الموضوع هذه المصادر المعرفية السليمة بشيء من الإيجاز.   أوّلاً: المعارف التي تعتمد على الفطرة البشرية السليمة: للإنسان مدركات فطرية يصفها القرآن ويؤكد سلامتها وصحتها كطريق للمعرفة، فأصل الدين المودع لدى الإنسان هو أمر مطابق للفطرة وذلك سواء في تشريعاته وتنظيماته، أو في أساسه وهو الاعتقاد بواحد أوجد الوجود. ذلك أنّ للفطرة الإنسانية مدركات أولية وجدانية صحيحة حول توحيد الله تظهر عندما يكون الإنسان في حالة صفاء وتوازن داخليين، ولكن عندما تلوثه الذنوب المتراكمة والأفكار المنحرفة، تتأثر فطرته بذلك فيفقد الإنسان القدرة على المعرفة الوجدانية المباشرة التي تمتلكها الفطرة السليمة، وهذا ما يدل عليه الحديث الشريف المشهور "كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهوّدانه وينصرانه..". إنّ الإنسان مخلوق أودع فيه نفحة من روح الله سبحانه، تستبطن هذه النفحة العلم، والادراك بوجوده تعالى ووحدانيته، ومن الآيات التي تطرقت إلى ذلك: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (إبراهيم/ 101). فكأن معرفة الله مسألة فطرية، وكل شيء يدل عليه. وفي كل شيء له آيةٌ *** تدل على أنّه واحدٌ كما يقول السبط الشهيد (ع) في دعاء عرفة: "متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بَعُدْت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميتْ عين لا تراك عليها رقيباً". وكما في قوله تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (لقمان/ 32). وغيرهما من الآيات التي تتحدث عن توجه الإنسان بفطرته ولا شعورياً إلى الله إذا واجهه خطر ما، كما إذا ركب السفينة وغشيه الموج، وحالات النزع وسكرات الموت، كما يصف تعالى فرعون المتجبر أثناء نزعه: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) (يونس/ 90).   ثانياً: المنهج الاستقرائي (المنهج العلمي): وهو التعرّف على الحقيقة من خلال الملاحظة والتجربة والمشاهدة، واستقراء الجزئيات واستنتاج ما يناسبها من حقائق غير ملموسة، وهو المنهج الذي تبنى عليه النظريات العلمية، وفي القرآن حثّ على استخدام هذا المنهج للتعرف على سبل الإيمان بالله وتوحيده وصفاته وبعض أصول الدين كما هو الحال مع الحقائق العلمية. ومن الآيات الدالة على ذلك: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). إنّ من يلاحظ الجزئيات المستقرأة في صنع عالم الأرض وكل الكون يرى الدقة والاتقان والترابط في كل جزء من السماوات والأرض بحيث لو كان أي خلل بسيط لاختل العالم، فلا يمكن أن يكون هذا الاتقان من غير مُتقن أو مدبر. وقد أثبت المفكر المرجع العلامة الصدر في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) من خلال الدليل الاستقرائي، أن مبنى العلم والإيمان واحد، فالذي يؤمن بالعلمي لابدّ أن يؤمن بالله والإيمان به، وهذا الدليل مقبول حتى عند من تلوّثت فطرته. والآية القرآنية كذلك تؤكد وتبيّن هذا المعنى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 27-28). إنّ من يستقرىء آيات الله سينتهي حتماً إلى الإيمان، وإن أكثر الناس خشية هم العلماء لعلمهم بدقائق التكوين والخلقة أكثر، فمثلاً حينما كتب (داروين) كتاب (أصل الأنواع) استفهم القساوسة منه، أنّه هل شكّ في الله، فأجاب بل ازددت يقيناً أكثر. (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...) (فصلت/ 53).   ثالثاً: المنهج العقلي أو (القياس): يستفاد ذلك من بعض الآيات مثلاً الآية: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور/ 35). فهي تثير العقل إلى أنّه لابدّ لكل ممكن من خالق، فهي تستبطن قياساً، إما أن يكونوا خلقوا من غير شيء، وهذا غير معقول، وإما أن يكونوا هم الخالقين وهذا محال، للزومه التناقض، عندها سيتعين الاحتمال الثالث وهو كونهم مخلوقين من خالق. والآية: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا...) (الأنبياء/ 22)، تفرْضُ وجود إلهين مما يؤدي إلى فساد وبطلان الوجود، وهذا استنتاج عقلي يقول به الفلاسفة في اثبات وحدانية الله. وقوله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس/ 78-79). والآية: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (النحل/ 20).   رابعاً: الادراك بالوحي: وهو مصدر راقٍ ورفيع من حيث أسلوبه ومنهجه، وهو بيد الله تعالى، والوحي ركيزة الديانات وهو مصدرها، وهو لا يختص بالأنبياء وحدهم، فلقد أوحي مثلاً إلى مريم (ع)، وهذا إشارة للوحي من ناحية منطقية كمصدر حقيقي سليم وصحيح للمعرفة، لا فلسفياً. ومن الآيات الدالة: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (النجم/ 10)، فهي تشير إلى الإيحاء، (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ...) (فاطر/ 31)، والآية: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ...) (آل عمران/ 44).   خامساً: الادراك بالإلهام أو (الاشراق): وهو يوصل إلى المعرفة من غير استدلال منطقي، فيلقى في روع المرء فيدرك معارف وأشياء ادراكاً صحيحاً، والالهام مصدر للمعرفة يمكن التعويل عليه، ويدّعي أكثر الفلاسفة الإسلاميين أنّ المؤمن إذا التزم بتعاليم الله سبحانه وتعالى وهذّب نفسه، وجسّد القيم الإلهية تصبح لديه شفافية خاصة، فتزول من أمامه الحجب المادية، وينكشف أمامه من حقائق الكون والغيب ما لا يشاهده الآخرون، ولنفس الإنسان القابلية على ذلك كلما تجردت من التعلقات المادية، ويقولون المعرفة الحصولية هي أولية والحقائق الملهمة تدرك بهذه الطريقة عند التقدم بالقرب من الله أكثر، وبدرجة عالية. فالمؤمن إذا اتقى يعطيه الله إشراقاً على عالم المادة كالأنبياء والأئمة (ع)، كقوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) (الكهف/ 65). والقرآن لم يقل إنّه أُنزل الوحي على الخضر (ع)، بل ما كان لديه هو نوع من الالهام، أو ما يسمّى بالعلم (اللّدني) الذي يرتبط فيه الإنسان بعالم الغيب، والأئمة من أهل البيت والزهراء (ع) كان علمم وما أخذوه عن الرسول (ص) من هذا القبيل. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم عن السامري أيضاً، قال تعالى: (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (طه/ 96). فقد حصل السامري على ذلك الاشراق من خلال تلك القبضة والتي ألقاها في فم العجل فأصبح له خوار، (بغض النظر هنا عن انحراف السامري بعد حصوله على المعرفة اللدنية) وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (القصص/ 7). فالايحاء ليس بارسال الوحي لها بل بالالهام. وكذلك آية اتخاذ النحل بيوتاً بالإيحاء، وغيرها من الآيات المشابهة. فكل إنسان له بالقوة إمكانية الوصول إلى تلك المراتب ولكن الموانع والعوائق كالذنوب تجعل له أثراً وضعياً بالتدني عن هذه المرتبة، فلو التزم بالمطلوب لأصبح له اشراق واطلاع على عالم ماوراء المادة وذلك حينما يجسد الطاعة والعبودية لله تعالى.   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 47 لسنة 1994م

ارسال التعليق

Top